لطالما كان الخطاب العالمي المحيط بالتمويل منحازًا نحو وجهات النظر الغربية، وغالبًا ما يتجاهل السياقات المحلية وأنظمة المعرفة الأصلية في مناطق نامية مثل أفريقيا. ونتيجة لذلك، تميل الأنظمة والهياكل المالية المفروضة على الدول الأفريقية إلى تكرار الديناميكيات الاستعمارية، وتهميش المجتمعات المحلية، والتغاضي عن احتياجاتها المحلية. وقد أدّى هذا الاختلال إلى خلق فجوة شبه مستمرة بين أنواع التمويل المتاحة، ومنها الأخضر، وما تحتاجه المجتمعات المحلية بالفعل من أجل التنمية المستدامة.
وعليه، تؤكد هذه المقالة على الحاجة الملحة لتحرير التمويل من قيود الاستعمار المفروضة من خلال إعادة توجيهه نحو الحلول المحلية التي تعالج بفاعلية تحديات تغيّر المناخ والتنمية في أفريقيا. ومن خلال أمثلة ملموسة، مثل: حلول إدارة النفايات المبتكرة من Sistema.Bio، ومجمع نور ورزازات للطاقة الشمسية في المغرب، ومشروع إمداد المياه بالجملة في كيغالي، عاصمة رواندا، والمحميات التي تقودها المجتمعات المحلية في ناميبيا، نوضح كيف يمكن للنهج المحلي للتمويل أن يُسفر عن نتائج تنمية مستدامة وشاملة.
معضلة قيود الاستعمار المالي في أفريقيا
رغم انتهاء الاستعمار العسكري، لا تزال السيطرة المالية الاستعمارية تُخيّم على أنظمة أفريقيا المالية. إنّ الاقتصادات الأفريقية ما زالت مقيدةً بأُطُرٍ تفرضها كيانات خارجية، مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما؛ حيث تُطبِّق شروطًا قاسية على القروض، وحُزَم المساعدات، وتُفضل التحرر الاقتصادي والخصخصة والتقشف، متجاهلةً الاحتياجات المحلية والاستدامة البيئية.
إنّ برامج التكيف الهيكلي التي طُبقت في أفريقيا خلال الثمانينيات والتسعينيات هي مثال بارز؛ حيث ألزمت هذه البرامج الدول بتنفيذ سياسات، مثل: خفض قيمة العملة، وخفض الإنفاق العام، وإلغاء الدعم على السلع الأساسية، وخصخصة الشركات الحكومية. وكانت النتائج غالبًا مدمرة اجتماعيًا وبيئيًا؛ ففي غانا، أدت خصخصة خدمات المياه في التسعينيات إلى ارتفاع شديد في التَّعْريفات، الأمر الذي جعل الماء باهظ الكلفة لكثير من الأسر ذات الدخل المحدود، ما أدى إلى تفاقم أزمات الصحة العامة. وفي زامبيا، أدت خصخصة مناجم النحاس إلى تسريح واسع للعمال وتدهور بيئي.
هناك تعقيدات إضافية تنشأ من أسعار الفائدة المرتفعة المطبقة على الديون، خاصة في حالات التخلف عن السداد، أو إعادة الجدولة أو الهيكلة؛ حيث تتحول الفوائد غير المدفوعة إلى جزء من المبلغ الأصلي، ثم يعاد احتساب خدمات الديون (الفوائد) بتطبيق نظام الفائدة المركبة وليست البسيطة، مما يؤدي إلى تضخم هائل في المحصلة الإجمالية للدين العام.
هذه الديناميكيات تحبس الدول الأفريقية في دوّامة من الديون؛ إذ تُضطر إلى الاقتراض مجددًا لسداد الديون القائمة، ما يستهلك جزءًا كبيرًا من الميزانيات الوطنية، ويحدّ من الاستثمار في المشاريع الخضراء والبنى التحتية.
وفي الآونة الأخيرة، تشكلت أيضًا ملامح التمويل الأخضر في أفريقيا من خلال نماذج مالية خارجية تعطي الأولوية للمشاريع الضخمة كثيفة رأس المال، والتي غالبًا ما تفيد المستثمرين الأجانب والشركات متعددة الجنسيات في الدرجة الأولى.
فعلى سبيل المثال، تركز العديد من مشاريع الطاقة المتجددة التي يمولها المانحون الدوليون في أفريقيا على تصدير الطاقة إلى أوروبا، أو توليد أرصدة الكربون للشركات الغربية، وتتجاهل في كثير من الأحيان احتياجات الطاقة المحلية وتفشل في توفير الوصول العادل إلى الطاقة النظيفة للمجتمعات الأفريقية.
ويُعد مشروع “سد جراند إنجا” في جمهورية الكونغو الديمقراطية مثالًا بارزًا. فقد صُمم في المقام الأول لإنتاج الكهرباء للتصدير، رغم أن 9٪ فقط من الأسر الكونغولية لديها إمكانية الوصول إلى الكهرباء. مثل هذه المشاريع، تسلط الضوءَ على الخلل المستمر بين الأولويات المالية المدفوعة خارجيًا، والاحتياجات الفعلية للسكان الأفارقة.
تأثير أسعار الفائدة المركبة
توضح آثار أسعار الفائدة المركبة على الإقراض للدول الأفريقية كيف يظل الاستعمار المالي راسخًا بعمق في العلاقات الاقتصادية المعاصرة، وفي الوقت ذاته تعدّ مبررًا قويًا يستند إليه في صياغة هذا المصطلح (القيود الاستعمارية على التمويل)؛ لأنّ نظام الفائدة المركبة يعتمد على توليد المزيد من النقود على الفوائد المصاحبة لمبلغ القرض الأصلي. إذْ تدفع الدولة المقترضة فوائد ليس فقط على المبلغ الذي اقترضته في الأصل؛ ولكن أيضًا على الفائدة التي تضاف على القرض بمرور الوقت، وهذا يتسبب في نمو الدين بشكل متسارع.
على سبيل المثال للتبسيط، فإذا افترضنا أنّ دولة اقترضت 100 مليون دولار بمعدل فائدة مركب 5٪، وبفترة سداد خمس سنوات، فإنّ الدين لا يزداد بنفس القيمة كل عام. ففي السنة الأولى، يصبح الدين 105 ملايين دولار، وبحلول السنة الثانية، ينمو إلى 110.25 ملايين دولار؛ لأنّ الفائدة تُحسب الآن على 105 ملايين دولار، وليس فقط 100 مليون دولار الأصلية. وفي السنة الثالثة، يزداد الدين إلى 115.76 مليون دولار؛ حيث تُضاف الفائدة على المبلغ المتزايد. وبحلول السنة الرابعة، يصل إلى حوالي 121.55 مليون دولار، وبحلول السنة الخامسة، يرتفع إلى حوالي 127.63 مليون دولار، هذا بافتراض ثبات العوامل الأخرى.
هذا يعني أنّ الدين ينمو كل عام، مما يجعل من الصعب على الدولة سداده إذا لم يكن اقتصادها ينمو بسرعة كافية. إنّ فهم كيفية عمل الفائدة المركبة يمكن أنْ يساعد الدول على إدارة ديونها بشكل أكثر فاعلية، وأنْ تبحث عن البدائل الأخرى الأكثر مواءمة.
فمع نمو الديون بشكل لا يمكن السيطرة عليه بسبب نظام الفائدة المركبة، كانت الحكومات الأفريقية تتعرض لضغوطات هائلة لقبول شروط غير مواتية للوصول إلى الأموال اللازمة للخدمات الأساسية والبنية التحتية.
وحتى التمويل الأخضر، الذي من المفترض أنْ يساعد الدول الأفريقية في معالجة تغير المناخ، غالبًا ما يتشكل بهذه الديناميكيات الاستعمارية، غالبًا ما تضاف إلى نظام الفائدة المركبة مصطلحات رنانة تسويقية فقط، مثل النمو الأخضر، ومشاريع استدامة البيئة، والمعايير الخضراء الدولية.
لذا، يرى المنتقدون أنّ مثل هذه الظروف المالية تديم شكلًا من أشكال التبعية الاقتصادية التي تشبه الاستعمار الجديد؛ حيث تظل الدول الأفريقية مقيدة بمتطلبات التمويل الخارجي، مما يحدّ من سيادتها الاقتصادية. وأصبحت الدعوات إلى نماذج تمويل أكثر عدالة تعالج بشكل أفضل التحديات التنموية الفريدة في أفريقيا أكثر إلحاحًا.
ولبناء مشهد مالي خالٍ من الاستعمار حقًا، تحتاج كثير من الدول الأفريقية إلى البحث عن بدائل تقلل من الاعتماد على الجهات الفاعلة الخارجية، وتعطي الأولوية للملكية المحلية الحقيقية. فتطوير المؤسسات المالية المحلية، والاستفادة من أنظمة المعرفة الأصلية، وتعزيز التعاون الإقليمي، وتوسيع أسواق رأس المال المحلية، واستكشاف آليات التمويل المبتكرة التي تتوافق مع القيم الأفريقية، هي خطوات أساسية نحو تحقيق السيادة المالية والتنمية المستدامة.
نماذج بديلة وحلول محلية فعالة
في خِضمّ هذه التحديات، تَظهر العديد من المبادرات المبتكرة التي يقودها السكان المحليون كأمثلة ناجحة لكيفية إزالة قيود الاستعمار من التمويل في أفريقيا من خلال تطوير نماذج مالية خضراء، تعطي الأولوية لاحتياجات المجتمع، والاستفادة من المعرفة الأصلية، وبناء القدرات المحلية.
1- تحويل النفايات إلى ثروة في دول أفريقية
تقدم شركة سيستيما بيو (Sistema.bio) التي تعمل في دول أفريقية متعددة، نموذجًا ناجحًا لقدرة الحلول المحلية على المعالجة الفعالة لتحديات متنوعة، مثل: إدارة النفايات، والأمن الغذائي، والطاقة بأسعار معقولة.
تقوم الشركة بتثبيت وحدات هضم حيوي معيارية تعمل على تحويل النفايات العضوية إلى غاز حيوي للطهي، وأسمدة حيوية للمحاصيل. إذْ تعمل هذه الوظيفة المزدوجة على تقليل الاعتماد على وقود الخشب، والحدّ من قطْع الأشجار وإزالة الغابات، بالإضافة إلى تقليل انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري على المستويين: الإقليمي والعالمي، مع تحسين خصوبة التربة وزيادة الإنتاجية الزراعية.
ما يميز نهج “سيستيما بيو” هو قدرتها على التكيف مع السياقات المحلية. فمن خلال تقديم التكنولوجيا بأسعار معقولة وتصميم نموذج أعمال وَفقًا للاحتياجات المحلية، تعمل الشركة على تمكين المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة، وتمنحهم القدرة على إدارة نفاياتهم وتحقيق استقلالية أكبر في الحصول على الطاقة النظيفة.
يتم تمويل هذا المشروع من خلال مزيج من المستثمرين ذوي التأثير والتمويل المحلي، مما يجعله بديلًا مستدامًا (نسبيًا)، وقابلًا للتطوير مقارنة بالنماذج كثيفة رأس المال والمدفوعة من الخارج، والتي تهيمن على مشهد التمويل الأخضر في أفريقيا. كما يؤكد على أهمية مشاركة المجتمع، وبناء القدرات المحلية في ضمان الاستدامة طويلة الأجل لمشاريع التمويل الأخضر.
2- “مجمع نور ورزازات” لتسخير طاقة الشمس في المغرب
يعد مشروعًا بارزًا في المغرب، يوضح إمكانات مبادرات الطاقة المتجددة المحلية. فبصفته أكبر محطة للطاقة الشمسية المركزة (CSP) في العالم، بسعة إجمالية تبلغ 580 ميغاوات، صُمّم نور ورزازات إستراتيجيًّا؛ لتسخير موارد الشمس الوفيرة في المغرب؛ لتلبية احتياجات الطاقة المحلية، والإسهام في أهداف المناخ العالمية.
وعلى نقيض العديد من مشاريع الطاقة الممولة خارجيًا بشكل كلّي، والتي تخدم في المقام الأول الأسواق الأجنبية، طُوِّر مجمع نور من خلال مزيج من التمويل الميسر، والشراكات بين القطاعين: العام والخاص والحوكمة المحلية. وأدّى هذا النهج إلى تقليل ملف مخاطر المشروع، وجعله أكثر جاذبية للمستثمرين مع ضمان توافقه مع الأولويات الوطنية وإفادة المجتمعات.
نجح المشروع في خفض تكاليف الطاقة، وخلق فرص عمل، وتعزيز استقلال المغرب في مجال الطاقة، ليكون بمثابة نموذج للدول الأفريقية الأخرى التي تسعى إلى تطوير مشاريع الطاقة المتجددة واسعة النطاق، المستدامة والموجهة نحو تحقيق رفاهية المجتمع.
3- مشروع إمداد المياه في كيغالي
يُقدَّم مشروع إمداد المياه بالجملة في كيغالي، عاصمة رواندا، كنموذجٍ فعّالٍ لحلولٍ محليةٍ تستجيب لاحتياجات المجتمع من خلال تطوير نظام موثوق لإمدادات المياه عبر شراكة بين القطاعين: العام والخاص، مما عزز كفاءة واستدامة البنية التحتية للمياه في المدينة.
ويُعْزَى نجاح هذا المشروع إلى إطاره المؤسسي المرِن الذي يتيح تكراره بشكل واسع، وتوافقه مع سياسات الحكومة، ونهج التخطيط القائم على النتائج، الذي يُسَهِّل الرصد والإدارة الفعالة.
كما يُبْرِز المشروع إمكانات الشراكات بين القطاعين: العام والخاص في تقديم حلول بنية تحتية مستدامة تلبي الاحتياجات المحلية، وتقديم بدائل قابلة للتطبيق للحلول التقليدية التي يقودها المانحون، والتي غالبًا ما تفتقر إلى الملكية والمساءلة المحلية. وقد أثبت هذا النموذج أنه عندما تشارك المجتمعات المحلية، وتصبح صاحبة مصلحة في النتائج، تكون مشاريع البنية التحتية أكثر استدامة وفائدة للسكان المحليين.
4 – المحميات المجتمعية في ناميبيا
ويُعدّ مشروع الحفاظ على البيئة بقيادة المجتمع في ناميبيا، بجمعه بين التقاليد والتمويل الحديث، مثالًا آخر مقنعًا لكيفية دمج هياكل الحكم التقليدية مع الأنظمة المالية الحديثة؛ لتحقيق نتائج التنمية المستدامة. فبموجب برنامج الحفاظ المجتمعي، تُمكَّن المجتمعات المحلية من إدارة مواردها الطبيعية والاستفادة منها.
فمن خلال مزج المعرفة الأصيلة مع ممارسات الحفاظ المعاصرة، نجحت ناميبيا في إنشاء تدفقات دخل جديدة من السياحة البيئية، وإدارة الحياة البرية، مما أدى إلى توليد فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة للمجتمعات المحلية.
اجتذب هذا النموذج تمويلًا من المانحين الدوليين، ومن المستثمرين في القطاع الخاص الذين يدركون قيمة دعم المبادرات التي يقودها المجتمع، والتي تتوافق مع القيم والأولويات المحلية. فمن خلال تعزيز الشعور بالملكية والوصاية المحلية، أثبتت محميات المجتمع في ناميبيا أنّها ضرورية للاستدامة طويلة الأجل، مما يوفر نموذجًا قابلًا للتكرار للدول الأخرى التي تتطلع إلى دمج الحكم المحلي مع التمويل الحديث.
الخلاصة والتوصيات
تُظهر المبادرات المبتكرة مثل: حلول إدارة النفايات من Sistema.Bio، ومجمع نور ورزازات للطاقة الشمسية في المغرب، ومشروع إمداد المياه بالجملة في كيغالي، والمحميات المجتمعية في ناميبيا، أن هناك إمكانات هائلة للنماذج المالية الحساسة للسياق المحلي. هذه المشاريع تعزز التنمية المستدامة بأساليب تلبي احتياجات المجتمعات وتعزز تمكينها، وتثبت إمكانية بناء هياكل مالية عادلة وشاملة تتجاوز الأطر المالية الخارجية التقليدية التي هيمنت على المشهد المالي الأفريقي لعقود.
وعلى الرغم من كفاءتها وابتكارها، ليست هذه البدائل بمنأى كامل عن التأثيرات الغربية؛ حيث يُموّل العديد من هذه المشاريع جزئيًا عبر التمويل الميسر، ودعم المانحين الدوليين. فالاعتماد على القروض والمنح الميسّرة يُمكن أن يُخضع هذه المشاريع لمعدلات فائدة عالية أو مركبة، مما قد يُفاقم من أعباء الديون، خصوصًا في حالات التخلف عن السداد أو إعادة الجدولة.
ولتحقيق مشهد أفريقي خالٍ من الهيمنة المالية الاستعمارية، من الضروري تبني بدائل جذرية، تُقلل الاعتماد على الكيانات الخارجية، وتُعطي الأولوية للملكية المحلية. إنّ تعزيز المؤسسات المالية المحلية، مثل: البنوك المجتمعية، ودمج المعرفة الأصيلة، والحوكمة التقليدية في صنع القرارات المالية، وتوسيع أسواق رأس المال المحلية، وتعزيز التعاون الإقليمي هي خطوات مهمة نحو هذا الهدف. كما ينبغي استكشاف آليات التمويل المبتكرة، مثل التمويل الإسلامي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ لتوفير حلول تمويلية تتوافق مع القيم المحلية.
بلا شكّ، تمثل هذه الجهود خطواتٍ أوّلية ضمن حركة أوسع نحو السيادة المالية، وتستهدف بناء نظام مالي يُعبّر عن مبادئ وممارسات دول القارة، مما يُمكن الدول الأفريقية من تحديد مساراتها التنموية نحو مستقبل مستدام وعادل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.