بعد أيام من حادثي انفجار أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي في لبنان اللذين أسفرا عن عشرات القتلى ومئات الإصابات، وصل التصعيد بين حزب الله اللبناني وإسرائيل إلى ذروته، فكانت بيروت على موعد مع سلسلة من الغارات الجوية، وعادت ضاحيتها الجنوبية إلى مركز الاستهداف الإسرائيلي.
فقد شهدت الضاحية أسبوعا عصيبا، إذ لم تكد تمضي أيام على اغتيال القائديْن في حزب الله إبراهيم عقيل وأحمد وهبي حتى أعلنت إسرائيل عن شن غارة جديدة في محاولة لاغتيال القيادي علي كركي، لكن سرعان ما جاء اليوم التالي بغارة في منطقة الغبيري قتلت القائد إبراهيم قبيسي.
تعيدنا استهدافات الضاحية الجنوبية لبيروت منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخاصة الهجوم على منطقة الغبيري، إلى الحرب على لبنان عام 2006، مما يدفع للتساؤل عما يجعل هذه المنطقة هدفا للقصف الإسرائيلي.
حاضنة حزب الله
تقع المنطقة -التي يقطنها نحو مليون نسمة- بين ساحل بيروت الجنوبي وبداية جبل لبنان التي تتبع له إداريا، وكانت تُعرف سابقا بـ”ساحل المتن الجنوبي”.
وتضم مساكن عدد من علماء الشيعة وقادة الحزب، وتعكس المباني المليئة بثقوب الرصاص والكتابات على الجدران “الموت لأميركا” تاريخ الحروب والتوترات التي شهدتها المنطقة، مما جعلها هدفا مباشرا للاعتداءات الإسرائيلية.
وتكمن أهميتها الإستراتيجية في وجود مطار بيروت الدولي ضمن نطاقها، ومن أهم مناطقها: الشياح الغبيري، وبرج البراجنة، وحارة حريك، وبئر العبد، وحي السلم، والليلكي، والأوزاعي، والمريجة، وتحويطة الغدير.
وشهدت الضاحية محطات من زيادة النفوذ الإيراني، كان أبرزها صيف 1982، إذ كان للاجتياح الإسرائيلي دور كبير في تشكيل وتأسيس حزب الله اللبناني، الذي ظهر بصفته قوة مقاومة رئيسية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ ذلك الحين بدأت تتوطد فصول العلاقة الإستراتيجية بين هذا التنظيم والضاحية الجنوبية لبيروت التي أصبحت معقلاً أمنيا وسياسيا وثقافيا له.
عقيدة الضاحية
لا يزال سكان ضاحية بيروت الجنوبية يحملون ذكريات مروعة لحرب يوليو/تموز 2006، التي تعرضت فيها المنطقة للقصف والتدمير بشكل متكرر إثر الغزو الإسرائيلي.
ففي 12 من ذلك الشهر، شن مقاتلو الحزب هجوما عبر الحدود وقتلوا 8 جنود إسرائيليين وأسروا جنديين، وطالب الحزب مبادلتهما بسجناء ومعتقلين في السجون الإسرائيلية.
لكن إسرائيل ردت بحرب شاملة، بدأتها بحصار بحري وقصف جوي مكثف ثم توغل بري، واستمرت المعارك لمدة 33 يوما، سقط فيها بين 300 و800 عنصر من حزب الله، و43 من الجيش اللبناني وقوات الأمن، وأكثر من ألف قتيل من المدنيين اللبنانيين، وآلاف الجرحى من الطرفين، و121 جنديا إسرائيليا و44 مدنيا.
وفي المقابل، كان حجم الدمار الذي ألحقته إسرائيل بلبنان كبيرا، ومنه انبثقت عام 2008 ما عرفت بـ”عقيدة الضاحية” كإستراتيجية خاصة للقتل والتدمير ابتدعها الاحتلال ردا على صمودها.
الضاحية والطوفان
وفي زمن طوفان الأقصى، توجهت إليها الأبصار من جديد، فقد كانت منصة إعلام المقاومة الوحيدة خارج فلسطين، ومنها كان الناطق باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يخرج كل يوم ليوثق الأحداث.
وفي زمن الطوفان أيضا، كانت الضاحية تحت أنظار الاحتلال يترقب فيها أهدافه، كان ينتظر الجواسيس والعيون لتخبره بما خفي فيها عنه لينفذ إجرامه، فقد كانت طائرته جاهزة مذخرة بصواريخ مدمرة تنوء بها جدران بيوتها المتواضعة، فكان له ما أراد، ونجح مرات.
وخلال الأيام الماضية، عادت الضاحية من جديد لتتصدر المشهد السياسي والعسكري في لبنان، إذ أصبحت هدفا للغارات الإسرائيلية التي سقط فيها قادة شهداء.
استهداف صالح العاروري
في الثاني من يناير/كانون الثاني 2024 أعلنت حركة حماس عن اغتيال صالح العاروري واثنين من قادة كتائب القسام إثر هجوم بطائرة مسيرة إسرائيلية استهدف مبنى يضم مكتبا للحركة في الضاحية الجنوبية في بيروت.
وكان العاروري الرجل الثاني في حركة حماس ونائب رئيس المكتب السياسي للحركة منذ عام 2017، وأسهم في تأسيس كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري للحركة.
قضى 18 عاما في سجون الاحتلال، اتهمته إسرائيل بالوقوف خلف العديد من العمليات التي نفذتها المقاومة في الضفة الغربية.
وأدرج العاروري على القائمة الأميركية لـ”الإرهابيين الدوليين” عام 2015، وعرضت وزارة الخارجية الأميركية ما يبلغ 5 ملايين دولار عام 2018 مقابل من يدلي بمعلومات عنه عبر برنامجها “مكافآت من أجل العدالة”.
هجوم حريك.. واغتيال فؤاد شكر
وفي 30 يوليو/تموز 2024، أعلن الجيش الإسرائيلي اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر في غارة شنها على مبنى بحارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وعن هذا الاغتيال، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إن الجيش الإسرائيلي “قضى” على من وصفه برئيس الأركان في حزب الله فؤاد شكر بعملية “قاتلة ودقيقة” في ضاحية بيروت الجنوبية.
وأضاف غالانت في منشور على منصة إكس أنه باغتيال شكر “أكدنا اليوم أننا قادرون على الوصول لكل مكان من أجل تدفيع ثمن من يمس بإسرائيل”، وفق تعبيره.
ويعد شكر كبير مستشاري الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، والمسؤول العسكري المركزي الأول للحزب منذ تأسيسه.
وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية وصفت شكر بأنه “المشرف الفعلي على مواجهة الحزب مع إسرائيل منذ عملية الطوفان”.
هجوم القائم.. إبراهيم عقيل وأحمد وهبي
وفي يوم الجمعة الماضي 20 سبتمبر/أيلول الجاري، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري أن سلاح الجو نفذ غارة دقيقة في بيروت استهدفت اجتماعا عسكريا لحزب الله، واغتالت إبراهيم عقيل رئيس شعبة العمليات في حزب الله وعددا من قيادات شعبة العمليات في وحدة الرضوان.
وأعلن حزب الله مقتل أحمد وهبي وإبراهيم عقيل و14 مقاتلا بصاروخين إسرائيليين أطلقتهما طائرة من طراز “إف-35” على شقة في منطقة الجاموس في الضاحية الجنوبية لبيروت.
كان عقيل قائدا لقوة الرضوان، وهي وحدات النخبة في حزب الله، وزعيما في المجلس الجهادي لحزب الله، وهو أعلى هيئة عسكرية.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية صنفته ضمن القائمة الأميركية للمتهمين بالإرهاب عام 2005، وإرهابيا عالميا عام 2019، ورصدت مكافأة بقيمة 7 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
أما أحمد وهبي القائد في حزب الله فقد التحق بالمقاومة الإسلامية في لبنان منذ تأسيسها، وشارك في عدد من العمليات العسكرية جنوبي البلاد.
وكلت إليه مسؤولية تدريب قوة الرضوان عام 2012 حتى 2024، وقاد العمليات العسكرية للقوة على جبهة الإسناد اللبنانية مع إعلان بداية طوفان الأقصى، وعقب استشهاد القيادي في الحزب وسام الطويل تولى مسؤولية وحدة التدريب المركزي حتى اغتياله.
هجوم حي ماضي ومحاولة اغتيال علي كركي
في مساء أمس الاثنين، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي استهداف القيادي علي كركي في غارة جوية على “حي ماضي” في ضاحية بيروت، لكن حزب الله أعلن أن كركي بخير ونُقل إلى “مكان آمن”.
كما استهدفت الغارات الإسرائيلية أيضا بئر العبد في ضاحية بيروت، مما أسفر عن وقوع قتلى وإصابة العشرات.
وتقول مصادر إعلامية إسرائيلية إن كركي قائد الجبهة الجنوبية في حزب الله هو القائد العسكري الثالث في حزب الله بعد فؤاد شكر.
وقد وصفت إذاعة الجيش الإسرائيلي كركي بأنّه أبرز شخصية عسكريّة في حزب الله بعد اغتيال فؤاد شكر وإبراهيم عقيل.
وكانت إسرائيل حاولت اغتيال كركي في فبراير/شباط 2024 في بلدة النبطية، لكن السيارة التي استهدفتها كانت مموهة ولم يكن فيها.
إبراهيم القبيسي
بعد ظهيرة يوم أمس الثلاثاء، وبطريقة مشابهة لاغتيال فؤاد شكر بطائرات من طراز إف-35، استهدف جيش الاحتلال مبنى بحي سكني في منطقة الغبيري في قلب ضاحية بيروت الجنوبية الآهلة بالسكان.
بعدها بساعات، نعى حزب الله قائد منظومة الصواريخ إبراهيم قبيسي إثر هذا الهجوم، وقتل في هذه الغارة 6 أشخاص وأصيب 15 آخرون.
وقال الحزب في بيان إن القائد إبراهيم محمد قبيسي الملقب بـ”الحاج أبو موسى”، وهو من مواليد 1962، “ارتقى شهيدا على طريق القدس”، وهيالعبارة التي يستخدمها الحزب للإشارة إلى مقاتليه الذين يسقطون بنيران الجيش الإسرائيلي.
وهكذا، تنفض الضاحية عن نفسها ركام نحو عقدين من الزمان لتظهر كما كانت عام 2006 مركزا للقيادة وحضنا للمقاومة، كما تظهر بنك أهداف لا ينضب لجيش الاحتلال، لا فرق عنده فيها بين مدني ومقاتل، فالكل تحت القصف سواء.